فصل: فصل: الأَصْل الأول فِي الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ و... :

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل: الأَصْل الأول فِي الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ و... :

قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: الأَصْلُ الأولُ فِي الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَبَيَانِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إِليهِ وَتَوَقُّفِ كَمَالِ الْعبدِ ونَجَاتِهِ في مَعِاشِهِ وَمَعادِهِ عليهِ.
قَالَ اللهُ تعالى: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} استشْهدَ سبحانه بأولي العلمِ على أَجَلِّ مَشْهودٍ عَلَيْهِ وَهُو توحيدُهُ فقَالَ: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} وَهَذا يدلُّ على فضْلِ الْعِلْمِ وأهلِهِ مِنْ وُجوِهٍ:
أَحدُها: استشهادُهُمْ دُونَ غَيْرِهمْ من الْبَشَر.
والثاني: اقترانُ شهادَتِهِمْ بِشَهَادِتِهِ.
والثالثُ: اقترَانُها بشهادَةِ مَلائِكتِهِ.
والرابعُ: أنّ في ضِمْنِ هذا تزْكِيَتَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ فإنّ اللهَ لا يستشْهِدُ من خلقِهِ إلا العُدولَ ومنْهُ الأثَرُ الْمَعْرُوفُ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ مِنْ كلِّ خَلَفِهِ عُدُوله ينفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالين وانْتِحَالَ الْمُبْطِلينَ وَتَأويلَ الْجَاهِلين».
والْخَامِسُ: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهمْ أَوْلَي الْعِلْمِ وهذا يدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بهِ وَأَنهُمْ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ لَيْسَ بِمُسْتَعَارٍ لَهُمْ.
السَّادِسُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتشهد بنفسِهِ وَهو أجلُّ شاهدٍ ثُمْ بِخِيارِ خلقِهِ وهم ملائكتُهُ والْعلماءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَكْفِيهِمْ بِهَذَا فَضْلاً وَشَرفًا.
السَّابعُ: أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِهمْ على أجَلِّ مشهودٍ بِهِ وَأَعظمِهِ وَأَكْبرهِ وَهو شهادةُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ والعَظِيمُ الْقَدْرِ إِنَّما يَسْتَشْهِدُ عَلى الأمرِ العظيمِ أكابِرَ الْخَلْقِ وَسَادَاتِهمْ.
الثامِن: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْمنكِرِينَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَدِلَّتِهِ وآيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّالة على توحيدِهِ.
التاسع: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفردَ الْفعلَ الْمُتضمنَ لِهَذِهِ الشَّهادَةِ الصَّادرةِ منهُ ومِنْ مَلائكتِهِ وَمِنْهُمْ وَلَمْ يعطِفْ شهادَتَهُمْ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرَ شِهادتِهِ.
وهذا يدلُ على شدةِ ارتباطِ شهادتِهمْ بشهادِتِهِ فكأنَّهُ سُبْحانَه شَهِدَ لنفْسِهِ بَالتَّوْحِيدِ على ألسِنَتهِمْ وأنْطَقَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهْادةِ فَكَانَ هو الشاهدّ بِها لِنَفْسِهِ إِقامَةً وَإِنْطَاقًا وَتَعْلِيمًا وَهُمْ الشَّاهِدُونَ بِهَا لَهُ إقْرارًا واعْتِرَافًا وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا.
العاشرُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ مؤدّينَ لحقِّهِ عندَ عبادِهِ بهذهِ الشهادةِ فَإِذَا أدَّوْهَا فَقَدْ أدّوا الحقَّ المشهودَ بِهِ فَثبتَ الحقُّ المشهودُ بِهِ فَوَجَبَ عَلى الْخَلْقِ الإقرارُ بِهِ وَكَانَ ذلك غايةَ سَعَادَتِهمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكلُّ مَنْ نالهُ الْهُدَى بشهادتِهم وَأقرَّ بهذا الحقِّ بسببِ شهادتِهم فلهُمْ مِنَ الأَجْرِ مثلُ أَجْرِهِ أَيْضًا فَهِذِهِ عَشرةَ أوجُهٍ في هذه الآيةِ.
الحادي عَشَرَ: في تفضيلِ العلْمِ وأَهْلِهِ أَنَّهُ سبحانه نَفَى التسْويَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وبينَ غَيْرِهِمْ كما نفى التسويةَ بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.
فقَالَ تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كما قَالَ تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَهَذا يَدُلُّ عَلى غايةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ.
الوجهُ الثاني عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْجَهْلِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْيانِ الذينَ لا يُبْصِرونَ فقَالَ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فَمَا ثَمَّ إِلا عَالِمْ أَوْ أَعْمَى وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَه أَهْلَ الْجَهْلِ بأنَّهمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ.
مَا أَقْبَحَ الْجهْلَ يُبْدِي عَيْبَ صَاحِبهِ ** لِلنَّاظِرين وعن عَيْنَيْهِ يُخْفِيهِ

كَذَالِكَ الثُومُ لا يَشْمُمْهُ آكِلُهُ ** والناسُ تَشْتَمُّ نَتَنَ الرِّيحِ مِنْ فِيه

الوجهُ الثالثَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخبَرَ عَنْ أُولي الْعِلْمِ بَأنَّهُمْ يَرَوْن أنَّ مَا أُنْزِلَ إليهِ مِنْ رَبِّهِ حَقٌّ وَجَعل هذا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بهم. فقَالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}.
الوجهُ الرابعَ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِسُؤالهِمْ والرجوعِ إِلى أقْوَالِهمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ مِنْهُمْ. فقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وَأَهْلُ الذَّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لأَهْلِ الْعِلْمِ شَهَادَةً في ضِمْنِهَا الاسْتِشْهادُ بِهِمْ عَلى صِحَّةِ ما أَنْزَلَ اللهُ على رَسولِهِ فقَالَ تعالى: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصْلٌاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
الوجهُ السادسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ سَلَّى نَبيَّهُ، بإيمانِ أهلِ الْعِلْمِ به وَأمَرَهُ أَنْ لا يَعْبَأ بَالجْاَهِلِينَ شَيْئًا. فقَالَ تَعَالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} وهذا شَرَفٌ عظيمٌ لأهْلِ الْعِلْمِ وَتَحْتَه أنَّ أَهْلَهُ الْعَالِمُونَ قَدْ عَرَفوهُ وآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا فَسواءٌ آمنَ بِهِ غيرُهُم أوْ لا.
الوجهُ السابعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَشَرَّفَهُمْ بَأنْ جَعَلَ كِتَابَهُ آياتٍ بَيْناتٍ فِي صُدورِهِمْ وَهَذِهِ خاصةٌ وَمَنْقَبَةٌ لَهُمْ دَوُنَ غَيْرِهِمْ. فقَالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}.
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} وَسَواءً كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَقِرٌ فِي صُدُوِرِ الذين أوتوا الْعِلْمَ ثابتٌ فِيهَا مَحْفوظٌ وَهَو في نفسِهِ آياتٌ بيناتُ فيكونُ أَخبَرَ عَنهُ بَخَبَرَيْنِ. أَحدُهُمَا: أنه آياتٌ بيناتٌ. الثاني: أنهُ محفوظٌ مُسْتَقرٌّ ثَابتٌ في صدورِ الذين أوتوا العلمَ. أو كان الْمَعْنَى أَنَّهُ آيات بينات في صدورهم أي كونُه آياتٍ بيناتٍ مَعْلومٌ لَهمْ ثابتٌ في صدورِهِمْ والْقَوْلانِ مُتَلازِمانِ لَيْسَا بمُخْتَلِفَيْن. وَعلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهوَ مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءُ عليهم في ضِمْنِهِ الاستشهادُ بِهمْ فتأمَّلْهُ.
الوجهُ الثامنَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أمرَ نَبيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ فقَالَ تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وَكَفَى بِهَذَا شَرفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزيدَ مِنْهُ. اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَانْفَعْنَا وَارْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا.
الْعِلْمُ مُبْلِغُ قَوْمٍ ذُرْوَةَ الشَّرَفِ ** وَصَاحُب الْعِلْمِ مُحْفُوظٌ مِن التَّلَفِ

يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنّسَهُ ** بَالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ

الْعِلْمُ يَرَفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ ** وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ والشَّرَف

الوجهُ التاسِعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ رَفْعِهِ دَرَجاتِ أهلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ خَاصَّةً. فقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
قَصِيدةٌ في الْحَثِّ على طَلَبِ الْعِلْمِ:
يَا تَارِكًا لِمَرَاضِي اللهِ أَوْطَانًا ** وَسَالِكًا فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ أَحْزَانَا

كُنْ باذِلَ الْجدِّ فِي عِلْم الحديثِ تَنَلْ ** كُلَّ الْعُلومِ وَكُنْ بالأَصْلِ مُشْتَانَا

فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ وَطَالبُهُ ** مِنْ أَكَمْلِ النَّاسِ مِيزَانًا وَرُجْحَانَا

وَالْعِلْمُ نُورٌ فَكُنْ بَالْعِلْمِ مُعْتَصِمًا ** إِنْ رُمْتَ فَوْزًا لَدَى الرَّحْمَنِ مَوْلانَا

وَهُوَ النَّجَاةِ وَفِيهِ الْخَيْرِ أَجْمَعَهُ ** وَالْجَاهِلُونَ أَخَفَّ النَّاسِ مِيزَانَا

وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا كَانَ مُنْخَفِضًا ** وَالْجَهْلُ يَخْفِضُهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَا

وأرفعُ الناسِ أهلُ الْعِلْمِ مَنْزِلةً ** وَأَوْضَعَ النَّاسِ مَنْ قَدْ كان حَيْرَانَا

لا يَهْتَدِي لِطَرِيقِ الْحَقِّ مِنْ عَمَهٍ ** بَلْ كَانَ بِالَجَهْلِ مِمَّنْ نَال خُسْرانَا

تَلقاهُ بَيْنَ الوَرَى بالْجَهْلِ مُنْكَسِرًا ** لا يَدْرِ مَا زَانَهُ في النَّاسِ أَوْ شَانَا

وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ فَوْقَ الْوَرَى دَرَجَا ** وَالنَّاسُ تَعْرفُهُ بالْفَضْلِ إِذْ عَانَا

وَطَالبُ العِلمِ إِنْ يَظْفَرْ بِبُغْيَتِهِ ** يَنَالُ بالعلمِ غُفْرانًا وَرِضْوَانَا

فَاطْلُبْهُ مُجْتَهِدًا مَا عِشْتَ مُحْتَسِبًا ** لا تَبْتَغِي بَدَلاً إِنْ كُنْتَ يَقْظَانَا

مَنْ نَالَهُ نَالَ فِي الدَّارَيْنِ مَنْزِلَةً ** أَوْ فَاتَهُ نَالَ خُسرانًا وَنُقْصَانَا

وَبَاذِلُ الْجِدِّ فِي تَحْصِيلِهِ زَمَنًا ** وَلَمْ يَكنْ نَالَ بَعْدَ الْجِدِّ عُرْفَانَا

فَلَنْ يَضِيعَ لَهُ سَعْيٌّ وَلا عَمَلٌ ** عِنْدَ الإِلَهِ وَلا يُولِيهِ خَسْرَانَا

فَطَالِبُ الْعِلْمِ إِنْ أَصْفَى سَريرَتَهُ ** يَنَالُ مِنْ رَبِّنَا عَفْْوًا وَرِضْوَانَا

فَالْعِلْمُ يَرْفَعُ فِي الْخُلْدِ مَنْزِلَةً ** وَالْجَهْلُ يُصْلِيهِ يَوْمَ الْحَشْرِ نِيرَانَا

والْجَهْلُ في هذِهِ الدُّنْيَا يَنْقُصْهُ ** وَالْعِلمُ يَكْسُوهُ تاجَ الْعِزِّ إِعْلانَا

وَإِنْ تُرِدْ نَهْجَ هذا الْعِلْمِ تَسْلُكُهُ ** أَوْ رُمْتَ يَوْمًا لِمَا قَدْ قُلْتَ بُرْهَانَا

فَألْقِ سَمْعًا لِمَا أُبْدِي وَكُنْ يَقْظًا ** وَلا تَكُنْ غَافِلاً عَنْ ذَاكَ كَسْلانَا

قَدْ أَلَّفَ الشَّيْخَ فِي التَّوْحِيدِ مُخْتصَرًا ** يَكْفِي أَخَا اللُبِّ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا

فِيهِ الْبيانُ لتَوْحِيدِ الإِلهِ بِما ** قَدْ يَفْعَلُ الْعَبْدُ لِلطَّاعاتِ إِيمِانَا

حُبًّا وَخَوْفًا وَتَعْظِيمًا لَهُ وَرَجَا ** وَخَشْيَةً مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ إذْعَانَا

كَذَاكَ نَذْرًا وَذَبْحًا وَاسْتَغَاثَتُنَا ** والاستعانةُ بالْمَعْبُودِ مَوْلانَا

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ ** للهِ مِنْ طَاعَةٍ سِرًّا وَإِعْلانَا

وَفِيهِ تَوْحيدُنَا رَبَّ الْعِبَادِ بِمَا ** قَدْ يَفْعَلُ اللهُ أَحْكَامًا وَإِتْقَانًا

خَلْقًا وَرِزْقًا وَإِحْيَاءً وَمَقْدُرةً ** بالاخْتِرَاعِ لِمَا قَدْ شَاءَ أَوْ كَانَا

وَيَخْرُجُ الأمرُ عَنْ طَوْقِ الْعَبادِ لَهُ ** وَذَاك مِنْ شَأْنِهِ أَعْظِمْ بهِ شَانَا

وَفِيهِ تَوْحِيدُنَا الرَّحْمَنَ أَنَّ لَهُ ** صِفَاتِ مَجْدٍ وَأسْمَاءً لِمَوْلانَا

تِسْعٌ وَتَسعُونَ اسْمًا غَيرَ مَا خَفِيتْ ** لا يَسْتَطِيعُ لَهَا الإِنْسَانُ حُسْبَانَا

مِمَّا بِهِ اسْتَأْثَرَ الرَّحْمَنُ خَالِقُنَا ** أَوْ كَانَ علَّمَهُ الرَّحْمَنُ إِنْسَانَا

نُمِرُّهَا كَيْفَ جَاءت لا نُكَيِّفْهَا ** بَلْ لا نُؤَوِّلَهَا تَأْوِيلَ مَنْ مَانَا

وَفِيهِ تَبْيَانُ إِشْرَاكٍ يُنَاقُضُهُ ** بَلْ مَا يُنَافِيهِ مِنْ كُفْرَانِ مَنْ خَانَا

أَوْ كَانَ يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ بِدَعٍ ** شَنْعاءَ أَحْدَثَهَا مَنْ كان فَتَّانَا

أَوْ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا ** مِمَّا يُنَقِّصُ تَوْحِيدًا وَإِيمَانَا

فَسَاقَ أَنْوَاعَ تَوْحِيدِ الإِلهِ كَمَا ** قَدْ كانَ يَعْرفُهُ مِنْ كَانَ يَقْظَانَا

وَسَاقَ فِيهِ الذي قد كان يَنْقُضُهُ ** لِتَعْرِفَ الْحقَّ بالأضْدَادِ إِمْعَانَا

مُضْمِّنًا كُلَّ بَابٍ مِنْ تَرَاجُمِهِ ** مِنْ النُّصوصِ آحَادِيثًا وَقُرْآنَا

فَالشيخُ ضَمَّنَهُ ما يَطْمَئِنَّ لَهُ ** قَلْبُ الْمُوَحِّدِ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا

فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ فِي الأَصْلِ مُعْتَصِمًا ** يُورِثْكَ فِيمَا سِوَاهُ اللهُ عِرْفَانَا

وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ في مَبْنَى تَرَاجُمِهِ ** تَلقَى هُنالِكَ لِلتَّحْقِيقِ عُنْوَانَا

وَلِلْمَسَائِلِ فَانْظُرْ تَلْقَهَا حِكْمً ** يَزْدَادَ مِنهنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ إِتْقَانَا

وَقُلْ جَزَى اللهُ شَيْخَ الْمُسْلِمِينَ كَما ** قَدْ شَادَ لِلْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ أَرْكَانَا

فَقَامَ لِلَّهِ يَدْعُو النَّاسَ مُجْتَهِدًا ** حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ مَثْنَى وَوُحْدَانَا

وَوَحَّدُوا اللهَ حَقًّا لا شَرِيكَ لَهُ ** مِنْ بَعْدِ مَا انْهَمَكُوا فِي الْكُفْرِ أَزْمَانَا

وَأَصْبَحَ الناسُ بعدَ الْجَهْلِ قَدْ عَلِمُوا ** وَطَالَ مَا هَدَمُوا لِلدِّين بُنْيَانَا

وَأَظْهَرَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَانْتَشَرَتْ ** أَحْكَامُهُ فِي الْوَرَى مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَا

بَالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ قَدْ أَرْسَتْ مَعَالِمُهُ ** لا يَعْرِفُ النَّاسُ إِلا الْكُفْرِ أَزْمَانَا

يَدْعُونَ غَيْرَ الإِلِهِ الْحَقَّ مِنْ سَفَهٍ ** وَيَطْلُبُونَ مِنَ الأَمْوَاتِ غُفْرَانَا

وَيَنْسِكُونَ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذَبَحُوا ** وَيَنْذِرُونَ لَغَيْرِ اللهِ قُرْبَانَا

وَيَسْتَغِيثُونَ بَالأَمْوَاتِ إِنْ عَظُمَتْ ** وَأَعْضَلَتْ شِدَّةُ مِنْ حَادِثٍ كَانَا

وَيَنْدِبُونَ لَهَا زَيْدًا لِيَكْشِفَها ** بَلْ يَنْدِبُونَ لَهَا تَاجًا وَشُمْسَانَا

فَزَالَ ثَمَّ بِهَذَا الشَّيخِ حِينَ دَعَا ** مَنْ صَدَّ أَوْ نَدَّ عَنْ تَوْحِيدِ مَوْلانَا

فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو وَلِيجَتَهُ ** يَوْمًا بِنَجْدٍ وَلا يَدْعُونَ أَوْثَانَا

بَلْ الدُّعَا كَلُّهُ وَالدِّينُ أَجْمعُهُ ** للهِ لا لِسِوَى الرَّحْمَنِ إِيمَانَا

فَاللهُ يُعْلِيهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مَنْزِلَةً ** فَضْلاً وَجُودًا وَتَكْرِيمًا وَإِحْسَانَا

وَاللهُ يُولِيهِ أَلْطَافًا وَمَغْفِرَةً ** وَرَحْمَةً مِنْهُ إِحْسَانًا وَرِضْوَانَا

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيَّدِنَا ** أَزْكَى الْبَرِيةِ إِيمَانًا وَعِرْفَانَا

مَا نَاضَ بَرْقٌ وَمَا هَبَّ النَّسِيمُ وَمَا ** مِسَّ الْحَجِيجُ لِبَيْتِ اللهِ أَرْكَانَا

أَوْ قَهْقَهَ الرَّعْدُ فِي هَدْبَاءَ مُدْجِنَةٍ ** أَوْ نَاحَ طَيْرٌ عَلَى الأَغْصَانِ أَزْمَانَا

وَلآلِ والصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعينَ لَهُمْ ** عَلَى الْمَحَجَّةِ إِيمَانًا وَإِحْسَانَا

اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا وَقَدْ قَبِلْتَ اليسيرَ مِنَّا وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَائِمِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَاعِدِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ رَاقِدِينَ وَلا تُشمِتْ بنا الأَعْدَاءَ وَلا الْحَاسِدينَ، اللَّهُمَّ وَعَافِنَا مِنْ مِحَنِ الزَّمَانِ وعَوَارضِ الْفِتنِ فَإِنَّا ضُعَفَاءِ، عَنْ حَمْلِهَا وَإِنْ كُنَّا مِنْ أَهْلِهَا فَعَافيتُكَ أَوْسَعُ يَا واسعُ يا عليمُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحانَهُ فِي كِتَابِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا هَذَا.
والثَّانِي قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
والثالثُ قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى}.
والرابعُ قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فَهَذِهِ أَرْبَعةُ مَوَاضِعَ فِي ثَلاثةٍ مِنْهَا الرِّفَعةُ بالدرجاتِ لأهْلِ الرِّفْعةِ بالْجِهَاتِ فعادَتْ رِفْعَةُ الدرجاتِ كُلِّهَا إِلى الْعِلْم والْجِهَادِ اللذَيْنِ بِهِمَا قِوامُ الدِّينِ.
الوجهُ العشرون: أنَّهُ سُبْحَانَه اسْتَشْهَدَ بَأهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فقَالَ تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
الوجهُ الحادِي والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ. فقَالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
لا يَنَالُ الْعِلْمَ شَخْصٌ وَقْتُهُ ** ضَائِعٌ عِنْدَ الْمَلاهِي والْكُرَهْ

والتَّلافِيزَ وَمِذْيَاعِ الضَّرَرْ ** وَكَذَا الْفِدْيُو فَحَذِّرْ وَاحْذَرَهْ

فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}:
وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ في أُولِي الْعِلْمِ. وقَالَ تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْل خَشْيَتِهِ هُمْ الْعُلَمَاءِ. فَدَلّ عَلَى أَنْ هَذَا الْجَزَاءِ الْمَذْكُورَ لِلعلماءِ بمجموعِ النَّصَّيْنِ. وقَالَ ابنُ مَسْعِودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَفَى بَخشيةِ اللهِ عِلْمًا، وَكَفَى بَالاغْتِرَارِ بَاللهِ جَهْلاً.
الوجهُ الثانِي والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْثَالِهِ التِي يَضْرُبها لِعبادِهِ يَدُلُّهم على صِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّ أَهْلَ العلمِ هُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا الْمُخْتَصُّونَ بعِلْمِهَا فقَالَ تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وفي القرآنِ بِضْعةٌ وَأَرْبَعونَ مَثَلاً وكان بعضُ السَّلَفِ إِذَا مَرَّ بِمَثَلٍ لا يفهَمُهُ يَبْكِي وَيَقَولُ: لَسْتَ مِنْ الْعَالِمِين.
الوجهُ الثالثُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مُنَاظَرَةَ إِبْرَاهِيمَ لأبيهِ وَقَوْمِهِ وَغَلَبتِهِ لَهُمْ بَالْحُجةِ وَأَخْبَر عَنْ تَفْضِيلِهِ بذلكَ وَرْفعِهِ دَرجَتَهُ بعلمِ الْحُجَّةِ فقَالَ تَعَالَى عُقَيْبَ مُنَاظَرَتِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي سُورةِ الأنْعَامِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَرْفَعُ درجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِعلمِ الْحُجَّةِ.
الوجهُ الرابعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ ووضَعَ بَيْتَهُ الْحَرامَ والشهرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائدَ لِيُعْلِمَ عِبَادَهُ أَنَّهُ بُكلِ شَيءٍ عَلِيمٌ وَعَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فقَالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فَدَلَّ عَلى أَنْ عِلمَ الْعِبَادِ بربِّهِمْ وَصِفَاتِهِ وَعبادَتِهِ وَحْدَهُ هُو الْغَايةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْخَلْق وَالأَمْرِ.
الْعِلُم يَغْرِسُ كَلَّ فَضْلٍ فَاجْتَهِدْ ** أَنْ لا يفوتَكَ فَضلُ ذَاكَ المَغْرسُ

وَاعْلَمْ بَأنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ يَنَالُهُ ** مَنْ هَمُّهُ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَلْبَسِ

إِلا أَخُو الْعِلْمَ الذي يَزْهُو بِهِ ** فِي حَالَتَيْهِ عَارِيًا أَوْ مُكْتَسِي

فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ مِنْهُ حَظًّا وَافِرًا ** وَاهْجُرْ لَهُ طِيبَ الرُّقادِ وَعَبِّسِ

فَلَعلَّ يَوْمًا إِنْ حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ ** كُنْتَ الَّرئِيسَ وَفَخْرَ ذَاكَ الْمَجْلِس

آخر:
شُغِلنا بِكَسبِ العِلمِ عَن مَكسَبِ الغِنى ** كَشُغلِهِمُ عَن مَكسَبِ العِلمِ بِالوَفرِ

فَصارَ لَهُم حَظٌّ مِنَ الجَهلِ وَالغِنى ** وَصارَ لَنا حَظٌّ مِنَ العِلمِ وَالفَقر

آخر:
إِذَا مَا اعْتزَ ذُو عِلْمٍ بعِلمٍ ** فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلَى باعْتِزَازِ

فكَمْ طِيبِ يَفُوحُ ولا كَمِسْكٍ ** وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ ولا كَبَازِي

آخر:
لَيْسَ الْحَياةَ بَأنْفَاسٍ تُرددهَا ** إِنْ الْحَياةَ حَيَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَمَل

آخر:
يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَرْكَنْ إلى الْكَسَلِ ** واعْجَلْ فَقَدْ خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلِ

وَاسْتَعْمِلْ الصَّبْرَ فِي كَسْبِ الْعُلْومِ وَقُلْ ** أَعُوذُ بالله مِنْ عَلْمٍ بِلا عَمَل

آخر:
الْفِقْهُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ ** مَنْ يَدْرُسِ الْعِلْمِ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ

فَاكْسَبْ لِنَفْسِكَ مَا أَصْبَحْتَ تَجْهَلُهُ ** فَأوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالٌ وَآخرُهُ

آخر:
وَمَنْ بَغَى نيل فِقْهٍ وَهُوَ فِي دَعَةٍ ** كَمَنْ بَغَى مِنْ صَفَاةٍ دَرَّ حَلاب

آخر:
الْعِلْمُ يَمْنَعُ أَهْلَهُ أَنْ يُمْنَعَا ** فاسْمَحْ بِهِ تَنَلْ الْمَحَلَ الأَرْفَعَا

وَاجْعَلْهُ عِنْدَ الْمُسْتَحِقِّ وَدِيعَةً ** فَهُوَ الذِي مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُودَعَا

وَالْمُسْتَحِقُّ هو الذي إنْ حَازَهُ ** يَعْمَلْ بِهِ أَوْ إِنْ تُلْقِنَهُ وَعَا

آخر:
إِذَا لَمْ يزِدْ عِلمُ الفتى قلبَهُ هُدىً ** وسيرتَهُ عَدلاً وأخلاقَهُ حُسْنا

فبَشِّرْهُ أنَّ اللهَ أولاهُ فِتنَةً ** تُغَشِّيهِ حِرماناً وتُوسِعُهُ حُزْنا

آخر:
بِقَدْرِ الِجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ** وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي

نَزومُ العِزَّ ثُم تَنَامُ عَنْهُ ** يَغُوصُ الْبَحْرَ مِنْ طَلَبَ اللآلِي

آخر:
عَوِّدْ بَنِيكَ عَلَى الآدَابِ فِي الصِّغَرِ ** كَيْمَا تَقَرَّ بِهمْ عَيْنَاكَ فِي الْكِبَرِ

فَإِنَّمَا مَثَلُ الآدَابِ تَجْمَعُهَا ** في عُنْفُوَانِ الصِّبَا كالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ

هِي الْكُنُوزُ الَّتِي تَنْمُو ذَخَائِرُهَا ** وَلا يَخَافُ عَلَيْهَا حَادِثُ الْغِيَر

إِنَّ الأَدِيبَ إِذَا زَلَّتْ به قَدَمٌ ** يَهْوِي على فُرُشِ الدِّيباجِ والسُّرُر

آخر:
حَاولْ جَسيمَاتِ الأُمُور ولا تِنِي ** إِنَّ الْمَحَامِدَ وَالعُلا أَرْزَاقُ

وَارْْغَبْ بنفسِكَ أَنْ تَكُونَ مُقْصِرًا ** عَنْ غَايةٍ فِيهَا الطُّلابُ سِبَاقُ

لَوْ لمَ ْيَكُنْ مِنْ فَضْلِ العِلْمِ إلاَّ أَنَّ الجُهَّالَ يَهَابُونَكَ وَيُجلُّونَكَ وَأَنَّ العُلماءَ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ البَعِيدُونَ عن الرِيَاءِ وَحُبِّ الظُّهُورِ يُحِبُونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا دَعِيًا إِلى وُجُوبِ طَلَبِهِ، فَكَيْفَ بِسَائِرِ فَضَائِلِهِ في الدُّنيا والآخِرَة.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَقصِ الجهلِ إلا صَاحِبَه يَحُسِدُ العُلماءَ وَيُحْتَقَرُ عندَ الناسِ حَتى عندَ أهلِهِ وأَقْرِبَائِهِ وجِيرَانِهِ فَكَيْف بسائِر رَذَائِلِه وَمَسَاوِيهِ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ.
ولو لم يكن مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ يُقْطَعُ المشتَغِلَ بِهِ عن الوَسَاوِسِ المُضنِيَةِ وَالأَفْكارِ الرَّدِيئَةِ ومَطَارِح الآمالِ التي لا تُفيد غَيْرَ الهمِ والغَمِ لكانَ ذلك أَعْظَمُ دَاعٍ فَكْيفَ وَلَهُ مِنْ الْفَضَائِلَ وَالْمَحَاسِن ما يَطُول ذِكْرُهُ.
أَلا رُبَّ مَنْ قَدْ أنْحَلَ الزُّهدُ جِسْمِهُ ** كَثِيرَ صَلاةٍ دَائمُ الصومِ عابِدُ

يَرُوم وِصَالاً وَهو بالطُرْقِ جَاهِلٌ ** إِذَا جُهِلَ الْمَقْصُودُ قََدْ خَابَ قاصِدُ

قليلٌ مِن الأَعمالِ بالعِلمِ نَافِعٌ ** كثيرُ مِن الأَعمَالِ بالجَهْلِ فاسِدُ

اللَّهُمَّ اعفُ عنْ تَقْصِيرنَا في طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ، وأَدِمْ لَنَا لُزومَ الطَّريقِ إلى ما يُقْرِّبُنَا إِليكْ وَهَبْ لَنَا نَورًا نَهْتِدِيَ بِهِ إِليكَ، وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأهْلِ مَحَبَّتِكَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلاتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ المتقين، وَأَلْحِقْنَا بِعبَادِك الصالِحينْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيَّتينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فَصْلٌ:
الوجهُ الخامسُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَالْفَرَحِ، بِمَا آتَاهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعونَه الناسُ فقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وَفَسَّرَ اللهُ الْفَضْلَ بالإيمانِ وَرَحْمَتَهُ بالقرآنِ والإيمانُ والقرآنُ هَما الْعِلمُ النافعُ والعملُ الصالحُ والهُدَى وَدينُ الْحَقِّ وَهُمَا أفضلُ عِلْمٍ وأفضلُ عَمَلٍ.
الوجهُ السادسُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِمَنْ آتَاهُ الْعِلْمَ بأنهُ قد آتاهُ خَيْرًا كثيرًا فقَالَ تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ ابن قُتَيْبَةَ، وَالْجُمْهورُ: الْحكمةُ: إصابةُ الحقِّ والعملُ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ النَّافُع والعَمَلُ الصالحُ.
الوجهُ السابعُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ نِعَمِهُ وَفَضْلَهُ على رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلَ مِنْ أَجَلِّهَا أَنْ آتَاهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَقَالَ تَعَالى: {وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.
الوجهُ الثامِنُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكر عِبادَهُ الْمُؤْمِنينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا وَأَنْ يَذْكُرُوهُ عَلَى إِسْدَائِها إلَيْهِمْ فقَالَ تَعَالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}.
الوجهُ التاسعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَا أَنْ عَرَّفَهُمْ فَضْلَ آدمَ بالْعِلْمِ وَعَجْزَهُم عَنْ مَعْرِفَةِ مَا عَلَّمَهُ قَالَ لَهُمْ: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} فَعَرَّفَهُمْ سبحانه نَفْسَهُ بالعِلمِ، وأنه أحاطَ عِلمُهُ بِظاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهمْ وَبِغيبِ السَّماواتِ وَالأرضِ، فَتَعَرَّفَ إَلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَعَرَّفَهُمْ فَضْلَ نَبَيِّهِ وَكَليمِهِ بالعِلْمِ وَعَجْزَهُمْ عَمَّا آتَاهُ آدمَ مِنْ العِلْمِ وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ.
وَبَيَانُ فَضْلِ العِلْمِ مِنْ هذه القصةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ في آدَمَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا كَانَ بِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقاتِ، وأرادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُظْهِرَ لِمَلائِكَتِهِ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ فَظَهَرَ لَهُمْ أَحْسَنَ مَا فِيهِ وَهُوَ عِلْمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا فِي الإِنْسَانِ وَأَنَّ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا هُو بَالْعِلْمِ وَنَظِيرُ هذا ما فَعَلََهُ بِنَبِيِّهِ يُوسُفَ عليهِ السلامُ لَمَّا أَرَادَ إِظْهَارَ فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ كُلِّهِمْ أَظْهرَ للمَلِكِ وأَهلِ مِصرَ مِنْ عِلْمِهِ بتأْويلِ رؤياهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ علماءُ التعبيرِ فَحينئذٍ قَدَّمَهُ وَمَكَّنَهُ وَسَلَّم إليهِ خزائنَ الأرْضِ، وَكَانَ قَبلَ ذَلِكَ قَدْ حَبَسَهُ عَلى ما رآهُ مِنْ حُسْنِ وجهِهِ وَجَمَالِ صُورتِهِ، ولَما ظَهَرَ لَهُ حُسْنُ صُورةِ علمِهِ وَجَمالُ مَعْرِفَتِهِ أَطْلَقهُ مِنْ الْحَبْسِ وَمَكَّنَهُ في الأرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْعِلْمِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ أَبْهَى وَأَحْسَنُ مِنْ الصورةِ الْحِسِّيَّةِ ولو كانتْ أجْملَ صُورةٍ. وَهَذا وجهٌ مستقلٌّ في تَفْضِيلِ الْعِلْمِ مضافٌ إِلى مَا تَقَدَّمَ فَتَمَّ بِهِ ثَلاثين وَجْهًا.
الوجهُ الحادِي والثلاثون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَهْلَ الْجَهْلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
الوجهُ الثانِي والثلاثون: أنَّ الْعِلْمَ حَياةٌ وَنُورٌ، وَالْخَيْرُ كله سَبَبُهُ النَّورُ والْحَياةُ، فَإنَّ النورَ يكشِفَ عَنْ حقائِقِ الأشْيَاءِ وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَها، وَالْحَياةُ هي الْمُصَحِّحَةُ لِصفاتِ الْكمالِ الْمُوجِبَةُ لِتَسْدِيدِ الأَقْوَالِ وَالأعْمَالِ فَكُلَّمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْحياةِ فَهُوَ خَيْرٌ كلُهُ كالْحَياءِ الذي سببُهُ كمالُ حياةِ القلبِ وَتَصَوُّرُهُ حَقيقةَ القُبْحِ وَنُفرتُهُ مِنْهُ وَضِدُّهُ الوَقاحةُ والفُحْشُ وَسَبَبُهُ موتُ القلبِ وعدمُ نُفْرتِهِ مِنَ القبيحِ وكالْحَيَا الذي هو المطرُ الذي بهِ حياةُ كلِّ شيءٍ قَالَ تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} كَانَ مَيْتًا بَالْجَهْلِ قَلْبُهُ فَأحياهُ بالعِلْمِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الإِيمَانِ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ.
الوجهُ الثالثُ والثلاثون: أنَّ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ صَيْدَ الكلبِ الْجَاهِلِ مَيْتَةً يَحرُمُ أكلُها وأباحَ صَيْدَ الكلبِ الْمُعَلَّمْ وهذا أيضًا مِنْ شَرَفِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لا يُباحُ إلا صَيْدُ الكلبِ الْعَالِم، وَأَمَّا الْكَلْبُ الْجَاهلُ فَلا يَحِلُّ أَكلُ صَيْدِهِ فدلَّ عَلى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.
إِذَا مَا أُنَاسٌ فَاخرُونَا بِمَالِهمْ ** فَإنِّي بِمِيراثِ النَّبِيين فاخر

أَلَمْ تَرَ الْعِلْمِ يُذْكَرُ أَهْلُه ** بِكُلِّ جَمِيلٍ فِيهِ وَالْعَظمُ ناخر

سَقَى اللهُ أَجْدَاثًا أَجَنَّتْ مَعاشِرًا ** لهمُ أَبْحُرٌ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ زَوَاخر

آخر:
الْعِلْمُ بالتَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مُكْتَسَبْ ** ثُمَّ الْحَدِيث يَتْلُوهُ فَنِعْمَ الأَدَبْ

فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلَيْهِمَا ** فَلِحَبْلَيْهِمَا أَقْوى سَبَبْ

هَذَا هُو الْكِنْزُ الذي ** يَبْقَى إِذَا فَنِي الذَّهَبْ

وقَالَ رحمه الله: الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونصب للعباد علمًا لا كمال لهم إلا به.
وهو: أن تكون حركاتهم كلها موافقة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله وأنزل كتبه، وشرع شرائعه.
فكمال العبد الذي لا كمال له إلا به: أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له. ولهذا جعل إتباع رسوله صلى الله عليه وسلم دليلاً على محبته. قَالَ تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه أن يتحرك بتحركة اختيارية في غير مرضاته، وإذا فعل فعلاً مما أبيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوب من الذنوب، ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب بها مباحاته كلها طاعات.
فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده، وهو دائمًا بين سراء يشكر الله عليها، وضراء يصبر عليها، فهو سائر إلى الله تعالى دائمًا في نومه ويقظته.
قَالَ بعض العلماء: الأكياس عاداتهم عبادات الحمقى، والحمقى عباداتهم عادات.
لا يحَقْرِ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ دَقِيقَةً ** فِي السَّهْوَ فِيهَا لِوضِيعِ مَعَاذِرُ

فَكَبَائِر الرجُل الصَّغِيرِ صَغَائِرٌ ** وَصَغَائِرُ الرجُل الْكَبِير كَبَائِرُ

آخر:
دَعْ التَّعْلِيلَ والتَّسْويفَ وَاقْبِلْ ** عَلى مَوْلاكَ تَغنَمْ نَيْلَ حَظِّ

أدِمْ بالْحَزْمَ إقْبَالاً عَليْهِ ** عَسَى تَحْظَى بَتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ

وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُبُهَاتِ زَيْغٍ ** تَرَاهُ مَعْنَويًّا ثُمَّ لَفْظِي

وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ** وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ

وَرَقِّ النَّفْسَ بَالْعِرْفَانِ تَزْكُو ** وَتَظْفَرْ بَالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظ

وقَالَ بعض السلف: حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون به سهر الحمقى وصومهم، فالمحب الصادق إن نطق نطق لله وبالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فهو لله وبالله ومع الله.
ومعلوم أن صاحب هذا المقام، أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها ولا السكون المحبوب لله من غيره إلا بالعلم. فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته.
ولأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إليه كحاجته إلى ما به قوام نفسه وذاته.
ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وإنه من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة.
قَالَ ذو النون وقد سئل من السفلة؟ فقَالَ: من لم يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه.
وقَالَ أبو زيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة.
وقَالَ أبو حمزة البزازي: مَن عَلِمَ طريقَ الحقِّ سُهِّلَ عليه سُلُوكُه، ولا دليل على الطريقةِ إلا متابعةُ الرسولِ في أَقواله وأفَعاله وأَحواله.
وقَالَ محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس.
صِنْفٌ لا يَعْمَلُونَ بما يَعْلَمُون.
وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ بما لا يَعْلَمُون.
وَصِنْفٌ لا يَعْمَلونَ ولا يَعْلمَون.
وَصِنْفٌ يَمْنَعُونَ الناسَ مِن التَّعَلم.
قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومخسة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله.
وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.
فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة.
والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعة الأصناف، هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار، وعلى سبيل الهلكة.
وما يَلْقَى العَالِمُ الداعِي إلى الله ورسوله ما يَلقَاهُ من الأذَى والمحاربةِ إلاَّ عَلى أَيْدِيهم.
والله يَسْتَعْمِل مَن يشاء في سَخَطِهِ، كما يَسْتَعْمِلُ مَن يَشاء في مَرْضَاتِهِ إنه بعباده خبير بصير.
ولا ينكشفُ سِرُّ هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره في العلم وموجبه، والشر بحذفيره إلى الجهل وموجبه.
مَعَ الْعِلْمِ فَاسْلُكْ حَيْثَمَا سَلَكَ الْعِلْمُ ** وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فَهْمُ

فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ العَمَى ** وَعَوْنٌ عَلى الذِين الذي أمْرُهُ حَتْمُ

آخر:
لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ ** يَذَرَ الضَّئِيلَ مِن الرِّجَالِ مَهِيبَا

آخر:
ذَوُوا العِلْم في الدُّنْيَا نُجُومُ هِدَايَةٍ ** إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ

بِهِمْ عَزَّ دِينُ الله طُرًّا وَهُمْ لَهُ ** مَعَاقِلُ مِن أَعْدَائِه وجُنُودُ

وَلَوْ لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الحديثِ بِنَقْلِهِ ** فَمَنْ كَانَ يَرْوِي عِلْمَهُ وَيُفِيدُ

هُمُوا وَرِثُوا عِلْمَ النَّبوةِ وَاحْتووْا ** مِنْ الْفَضل ما عنه الأَنامُ رُقُودُ

وَهُمْ كَمَصَابِيح الدُّجَى يُهْتَدَى بِهِمْ ** وَمَا لَهُمُوا بَعْدَ الْمَمَاتِ خُمُودُ

اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا أَمْرَ الرِّزْقِ وَاعْصِمْنَا مِِنْ الْحِرْصِ وَالتَّعَبِ في طلبهِ وَمِنْ شَغْل القَلْبِ وَتَعلُّقِ الْهَمِّ بِهِ، وَمِنْ الذُّلِّ لِلخَلْقِ بِسَبَبَهِ وَمِنْ التَّفْكِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي تَحْصِيلهِ، وَمِنْ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمَيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ:
قَالَ ابن رجب: فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء والذين يُهتَدى بهم في ظلمات الجهل والشبهِ والضلالِ فإذا فُقدُوا ضَلَّ السالكُ.
وقد شُبِّهَ العلماءُ بالنجوم، والنجومُ فيها ثلاثٌ فوائد: يُهْتَدى بها في الظلمات، وهي زِينة للسماء، ورجومٌ للشياطين الذين يسترقون السمع منها.
والعلماءُ في الأرض يجتمع فيهم هِذِهِ الأَوْصافُ الثلاثةُ: بهم يُهْتَدى في الظلمات، وهُم زينةُ للأرض، وهم رجومٌ للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويُدْخِلونَ في الدين ما ليس منه مِن أهل الأهواء.
وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناسُ في هُدَى. وبقاءُ العلمِ بقاءُ حَمَلَتِهِ فإذا ذَهَبَ حَمَلتهُ ومَن يقوم به وقع الناسُ في الضلال كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال وَلَكِنْ يذهب الْعُلَمَاءِ فإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
مَا أَكْثَرَ الْعِلْمِ وما أَوْسَعَهْ ** مَنْ ذَا الذي يَقْدِرُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَجْمَعَهْ

إِنْ كُنْتَ لابد لَهُ طَالِبَا ** فَجِدَّ فِيهِ وَالتَمِسْ أَنْفَعَهْ

وخرج الترمذي مِنْ حَدِيث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: «هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ».
فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهُ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا الْعِلْم وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا.
فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ؟».
قَالَ جُبَيْرٌ بِنْ نُفَيْرَ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ.
فقَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَوْ شِئْتَ لأخَبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامع فَلاَ تَرَى فِيهِ خَاشِعًا. وخرجه النسائي من حديث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وفي حديثه: فذكر صلى الله عليه وسلم ضلالةَ اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله، قَالَ جبيرُ بنُ نفيرُ: فلقيت شدادَ بن أوس فحدثتهُ بحديث عوفِ بن مالك فقَالَ: صَدَقَ، ألا أخبرك بأول ذلكَ؟ يُرْفَعُ الخشوعُ حتى لا تَرى خَاشِعًا.
وخرج الإمام أحمد من حديث زياد بنْ عن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ». فذكر الحديث وقَالَ فيه: «أَوَلَيْسَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا؟» ولم يذكر ما بعدها.
ففي هذه الأحاديث أنِ ذَهَابَ الْعِلْمِ بذَهَابِ العمل وأن الصحابة فسروا ذلك بذَهَابِ الْعِلْمِ الباطن من القلوب وهو الخشوع. كذا روي عن حذيفة: أن أول ما يرفع من العلم الخشوع.
فإن العِلْمَ كَمَا قَالَ الحسنُ عِلْمَان: عِلْمُ اللسانِ فذاك حَجُةُ اللهِ على ابن آدم، وعلْمُ في القلبِ فذَاك العِلْمُ النافِعُ. وروي عن الحسن مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ وَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ.
فالعلمُ النافعُ هو ما بَاشرَ القلبَ فأوْقَرَ فيه معرفَة اللهِ وعظمته وخَشْيتهِ وإجلالَه وتَعْظِيمهُ ومحبته، ومتى سَكَنَتْ هذِه الأشياءُ في القلبَ خَشَعَ فَخَشَعَتَ الجوارُح تَبَعًا لَهُ. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ».
وهذَا يَدُلُ على أن العلْمَ الذي لا يوِجِبُ الخشوعَ لِلْقَلْبِ فهو عِلْمٌ غَيْرُ نَافعٍ. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يَسْأَلُ الله علمًا نافعًا. وفي حديث آخر: «سَلُوا الله علمًا نافعًا وتَعوذُوا باللهِ مِنْ علمٍ لا ينفع».
وأما العلمُ الذي على اللسان فهو حُجَّةُ اللهِ على ابنِ آدم كما قَالَ صلى الله عليه وسلم: «والقرآنُ حُجُّةٌ الله لَكَ أَوْ عَلَيْكَ». فإذا ذهبَ مِن الناسِ العلمُ الباطنُ بَقِيَ الظَّاهرُ على الألسنةِ حُجَّةً.
ثم يَذْهبُ الْعِلْمُ الذي هو حجةٌ بذَهَابِ حَملته ولا يَبْقَى مِن الدِّين إلا اسْمُهُ ولا مِن القرآن إلا رَسْمُهُ، فَيَبْقَى الْقرآنُ في المصاحفِ ثم يُسْرى به في آخر الزمان فلا يَبْقَى مِنْه في المصاحفِ ولا في القلوب شيء.
ومن هنا قَسَّم مَنْ قَسَّمَ مِن العلماء إلى باطنٍ وظاهر: فالباطن: ما باشَرَ القلوبَ فأثْمرَ لها الخشيةَ والخشوعَ والتعظيمَ والإِجلالَ والمحبةَ والأنْسَ والشوقَ. والظاهرُ: ما كان على اللسانِ فَبِهِ تَقُومُ حُجَّةُ الله على ابن آدم.
وَكَتَبَ وَهْبُ بنُ مُنَبه إلى مكحول: إنكَ امرؤٌ قَدْ أصبْتَ بِما َظَهر مِن عِلْمِ الإِسْلام شَرفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عَلْمِ الإِسْلام مَحَبَّةً وَزُلْفىَ. وفي رواية أنه كَتَبَ إليه: أنكَ قد بَلَغْتَ بظاهرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاس مَنْزلةً وَشَرفًا فَاطُلب بباطِنِ عِلمكَ عندَ الله منزلةً وزُلْفَى. وَاعلم أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمنعُ مِن الأخُرْى.
فأشارَ وَهْبَ بِعلمِ الظاهرِ إلى علمِ الفَتَاوي والأَحْكَامِ، والحلالِ والحرام، والقصصِ والوعظِ وهو مَا يظهُر على اللسان، وهذا العلمُ يوجَبُ لِصَاحِبهِ مَحبة الناسِ لَهُ وَتَقَدُّمُه عندهم فَحَذَّرَهُ من الوقوفِ عندَ ذلكَ والركون إليهِ والالتفاتِ إلى تعظيمِ الناس ومحبتهم فإن مَن وَقَفَ مَعَ ذلك فقد انقطعَ عن الله وانْحَجَبَ بنظرهِ إلى الخلقِ عن الحق.
وأَشَاَر بعلمِ الباطنِ إلى العِلم الذي يُبَاشرُ الْقُلوبَ فيحدِثُ لها الخشيةَ والإجْلالَ والتعظيمَ، وأَمَرهُ أَن يَطْلُبِ بهذا المَحبةَ مِن الله والقربَ مِنهُ والزُلْفَى لَدَيه.
وكان كثيرٌ مِن السلفِ كَسُفْيَانِ الثوري وغيره يُقَسِّمُونَ العلماءَ ثلاثةَ أقسام: عالمٌ بالله وعالمٌ بأمرِ الله ويُشِيرُون بذلكَ إلى مَن جَمَعَ بَيْنَ هَذَين الْعَلْمَيْنِ الْمُشَارُ إليهما: الظاهر والباطنِ.
وهؤلاءُ أشرفُ العُلماء وهم المَمدُوحُونَ في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}، وقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} إلى قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً}.
وقَالَ كثير من السلف: ليس العلم كثرةُ الرواية ولكن العلمُ الخشيةُ. وقَالَ بعضهُم: كَفَى بِخَشَيةِ الله عِلْمًا وكفَى بالاغترار بالله جَهْلاً. ويَقُولُون أيضًا: عالمٌ بالله ليس عالم بأمر الله وهُم أصْحَابُ العِلم الباطن الذين يَخْشَونَ الله ولَيْسَ لَهم اتِّساعٌ في العلم الظاهر.
ويَقُولَونَ: عالمٌ بَأمرِ الله ليسَ بِعَالِمٍ بالله، وهم أصحابُ العلم الظاهر الذينَ لا نَفَاذَ لهَمُ في العلمِ الباطنِ وليس لهم خَشْيَةٌ وَلا خُشُوعٌ، وهؤلاءِ مَذْمُومُونَ عِند السلفَ. وكان بعضهُم يقول: هذا هو العلم الفَاجِرُ.
وهؤلاء الذينَ وَقَفُوا مَعَ ظاهرِ العِلمِ ولم يصل العلمُ النافعُ إلى قلوبهم ولا شَمُوا لَهُ رَائِحَتَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهم الغفلةُ والقَسوةُ والأعراضُ عن الآخرة والتنافُسُ في الدنيا ومحبةُ العُلوِ فيها والتقدم بينَ أَهلها.
وقد مُنعوا إحْسَانَ الظن بِمَنْ وَصَلَ الْعِلمُ النَّافعُ إلى قلوبهم فلا يُحبونهم ولا يُجالِسونهم وربما ذَمُّوهُم وقَالَوا: ليسوا بعلماء، وهذا مِن خداع الشيطان وغرُورُه لِيَحْرِمَهم الوصولَ إلى العلم النافعِ الذي مدحه اللهُ ورسولهُ وسلفُ الأمة وأئمتها.
ولهذا كانَ علماءُ الدنيا يُبغضُون علماءَ الآخرة وَيَسْعَونَ في أذاهم جُهْدَهُم كما سَعَوا في أذَى سَعيدِ بن المسيب، والحسنِ، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين.
وذلك لأن علماءَ الآخرةِ خلفاءُ الرسل وعلماءَ السوءِ فيهم شبهٌ مِن اليهود وهم أعداءُ الرسلِ وقتلة الأنبياء ومَن يأمر بالقسطِ من الناس، وهم أشدُ الناس عَدَاوَةً وحسدًا للمؤمنين.
وَلِشِدَّةِ مَحبتهم للدنيا لا يُعظمُون علمًا ولا دِينًا وإنما يُعَظِمُونَ المالَ والجاهَ والتقدمَ عند الملوكَ.
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعَمَلْ به كان حُجَّةً ** عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ

فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا ** يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ

آخر:
قالوا فلانٌ عالمٌ فاضلٌ ** فأكرمُوهُ مثلما يَرْتضي

فقلتَ لما لمْ يكنْ ذا تقىً ** تَعَارَضَ المانعُ والمقتضي

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِج المتقِين وَخَصَّنَا بالتَّوفِيق المُبين واجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِين الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.